دولة الديمقراطية أم الدولة المدنية؟
صفحة 1 من اصل 1
دولة الديمقراطية أم الدولة المدنية؟
التوافق الوطني علي مقومات الدولة هو غاية أي حوار دستوري, بل هو شرط لاغني عنه لأي نظام ديمقراطي, فهذا النظام هو الوحيد, من بين الأنماط المختلفة للنظم السياسية, الذي لايمكن بناؤه بالقهر أو الإرغام سواء من أعلي أو من أسفل.
ويمكن تشبيه أهمية مقومات الدولة بالنسبة للنظام الديمقراطي بالأساس الذي يحمل أي مبني أو بناية. فعند الشروع في بناء مبني ما, يمكن الاختلاف علي كل شيء فيه ماعدا الأساس الذي يقام تحت الأرض, يمكن الاختلاف علي تصميم المبني وعدد الطوابق ومساحات كل وحدة فيه وكل مافي داخل هذه الوحدة. ولكن مالايجوز أن يكون موضع خلاف هو حجم المواد اللازمة لرمي الأساس من حديد وأسمنت وغيرها فالخلاف عليها, مثله مثل التلاعب فيها, ينذر بانهيار المبني فور الانتهاء منه.
وفي النظام الديمقراطي, كذلك, لاسقف للخلاف علي السياسات والبرامج والمواقف التي يتبناها نظام الحكم, لأنها قابلة للتغيير بموجب نتائج الانتخابات, ولكن إذا امتد الخلاف إلي المقومات التي تقوم عليها الدولة, لايمكن حينئذ بناء نظام ديمقراطي, ويتعذر استمراره إذا أقيم بالفعل.
ومرد ذلك إلي التمييز الواجب بين الدولة التي تجمع الجميع بكل اختلافاتهم, الحكومة التي تعبر عن بعض هذا الجميع, فالحكومة هي التي تتغير, وليست الدولة ومقوماتها.
ولعل مشكلتنا الأهم في مصر الآن, ونحن نتطلع إلي دعم التطور الديمقراطي, هي عدم وجود التوافق الضروري علي مقومات الدولة التي ينبغي أن نتفق عليها ونلتزم بها جميعا, فلا يسعي بعضنا إلي تغيير بشكل منفرد حتي إذا فاز في الانتخابات بزعم أن هذا الفوز يمنحه تفويضا مطلقا, فالتفويض الانتخابي الديمقراطي هو تفويض محدود سواء زمنيا حتي موعد الانتخابات التالية, أو موضوعيا لأنه مقيد بالمقومات التي تم التوافق عليها بين الأحزاب والقوي السياسية كلها.
ومن أهم الأسباب التي تحول دون إيجاد التوافق الضروري علي مقومات الدولة أننا, في مصر والعالم العربي عموما, لم نحسم قضية العلاقة بين الدولة والدين, وبالتالي بين السياسة والدين, علي مدي نحو قرنين منذ أن دخلنا مرحلة الدولة شبه الحديثة في عصر محمد علي.
بقيت تلك العلاقة موضع خلاف يتسع حينا ويضيق حينا آخر إلي أن تنامي الإسلام السياسي وجماعاته مؤديا إلي ازدياد هذا الخلاف وتحويله إلي عقدة يصعب المضي قدما في التطور الديمقراطي بدون فكها. ففي ظل هذه العقدة التي استحكمت في الفترة الأخيرة, أصبح الخلاف علي طبيعة الدولة وليس فقط علي مقوماتها.
ويصل هذا الخلاف إلي حد أن بعض أنصار الدولة العلمانية( التي تفصل تماما بين الدولة والدين) اتهموا الرئيس الراحل أنور السادات بأنه أقام دولة شبه دينية منذ أن استخدم الدين في مواجهة خصومه اليساريين ورفع شعار( دولة العلم والإيمان) وصولا إلي تعديل المادة الثانية في الدستور لتنص علي أن مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي وليس فقط مصدرا رئيسيا للتشريع.
غير أنه ربما يكون المظهر الأهم للخلاف علي طبيعة الدولة, وليس فقط علي مقوماتها, الآن هو شيوع استخدام مفهوم الدولة المدنية دون تعريف له أو تحديد لمدلوله ونطاقه, فليس هناك تأصيل لما يسمي الدولة المدنية في النظرية السياسية المعاصرة, ولا في الفكر السياسي, اللهم إلا شذرات متناثرة لاتحمل معني محددا. ففي الأدبيات السياسية والاجتماعية في العالم مفهوم محدد للمجتمع المدني, ومفهوم معين للثقافة المدنية, ولكن ليس هناك مايسمي دولة مدنية.
وبدون تأصيل لما تعنيه هذه الدولة فلا مبرر لمطالبة بعضنا بالنص عليها في الدستور, خصوصا أن المعني الشائع لكلمة مدني لدي معظم الناس هو أنها تقابل كلمة عسكري. أما المعني التاريخي لكلمة مدني في الثقافة الغربية فقد تأثر بالثورة الصناعية والتغيير الذي أحدثته في حياة الأوروبيين. وكان أحد أهم جوانب هذا التغيير هو الانتقال من المجتمع الزراعي الريفي إلي المجتمع الصناعي الحضري, واكتسبت كلمة مدني مدلولها الأساسي في الثقافة والمجتمع من التحول التاريخي الذي ترتب علي ذلك التطور.
ولذلك فإذا كان استخدام تعبير الدولة المدنية ضروريا, فلابد من تأصيله وتحديد مدلوله ونطاقه ومقوماته بوضوح, بحيث لايبقي تعريفه بالسلب فقط. فالاستخدام الشائع لتعبير الدولة المدنية لايفيد سوي أنها ليست الدولة الدينية التي يرفضها مستخدموه.
وكان هذا هو الدافع الأساسي وراء استخدام تعبير الدولة المدنية, حين شعر البعض بأن مفهوم الدولة العلمانية لم يعد مقبولا, وأن هناك سوء فهم شائعا له جعله سييء السمعة. صحيح أن هناك من لايعتبرون تعبير الدولة المدنية مجرد صياغة أفضل من الدولة العلمانية, ولكنهم لم يبلوروه نظريا, ولم يبحثوا عن مرجعية له, لأن الاكتفاء بالإحالة إلي دولة محمد علي لايفيد في ذلك. فنظام هذه الدولة, مثله مثل اتجاه بارز في الفكر العربي انتشر لفترة طويلة في القرنين الماضيين, كان أقرب إلي التلفيق( بين الدولة والدين) منه إلي التوفيق الخلاق الذي يقوم علي حوار في العمق يقود إلي توافق علي العلاقة بينهما.
ولأننا مازلنا في إطار فكر التلفيق, وليس التوفيق والتوافق, فقد وجد بعض دعاة الدولة الدينية الأمر سهلا للغاية فلجأوا بدورهم إلي تعبير الدولة المدنية علي أن تكون لها مرجعية إسلامية.
ومثلهم مثل من استخدموا هذا التعبير بدون ربطه بمرجعية معينة, ولكن فهم أن مرجعيتهم علمانية أو شبه علمانية, لم يبذل الذين لجأوا إليه كبديل عن تعبير الدولة الدينية جهدا لبلورته أو تقديم أي تأصيل له.
ولذلك تظل الأسئلة الأساسية التي يثيرها الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية بلا إجابة. ومنها,علي سبيل المثال لا الحصر, كيف يتم تجسيد المرجعية عمليا ونظاميا, ومن يعبر عنها وكيف.
وهل ستجسد في هيئة مابعينها, وأي صورة ستكون عليها, وكيف يتم اختيار أعضائها, وأي علاقة ستقام بين هذه المرجعية والأزهر الشريف, وما موقع هذه الجامعة الإسلامية العريقة أصلا في الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية؟ فهذه الأسئلة, وغيرها كثير, تكشف أن الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية هو مجرد شعار فضفاض مثله مثل الكلام عن دولة مدنية بلا مرجعية.
وسواء قدم أصحاب تعبير الدولة المدنية, سواء هذه أو تلك, تأصيلا للمقصود بها واضحا ومحددا, أو لم يقدموا, فعلينا أن نعمل من أجل بناء توافق وطني علي مقومات الدولة الديمقراطية انطلاقا من مفاهيم أساسية مثل المواطنة والتعددية واحترام الآخر وحكم القانون في إطار المباديء العامة للإسلام والخبرات المتراكمة للممارسة الديمقراطية في العالم والاتجاهات الرئيسة في الشرعية الدولية لحقوق الإنسان, فإذا توافقنا علي ذلك, فلن نكون في حاجة إلي أن نسمي الدولة الديمقراطية المعبرة عن هذا التوافق دولة مدنية. يكفي أن تكون دولة ديمقراطية.
ويمكن تشبيه أهمية مقومات الدولة بالنسبة للنظام الديمقراطي بالأساس الذي يحمل أي مبني أو بناية. فعند الشروع في بناء مبني ما, يمكن الاختلاف علي كل شيء فيه ماعدا الأساس الذي يقام تحت الأرض, يمكن الاختلاف علي تصميم المبني وعدد الطوابق ومساحات كل وحدة فيه وكل مافي داخل هذه الوحدة. ولكن مالايجوز أن يكون موضع خلاف هو حجم المواد اللازمة لرمي الأساس من حديد وأسمنت وغيرها فالخلاف عليها, مثله مثل التلاعب فيها, ينذر بانهيار المبني فور الانتهاء منه.
وفي النظام الديمقراطي, كذلك, لاسقف للخلاف علي السياسات والبرامج والمواقف التي يتبناها نظام الحكم, لأنها قابلة للتغيير بموجب نتائج الانتخابات, ولكن إذا امتد الخلاف إلي المقومات التي تقوم عليها الدولة, لايمكن حينئذ بناء نظام ديمقراطي, ويتعذر استمراره إذا أقيم بالفعل.
ومرد ذلك إلي التمييز الواجب بين الدولة التي تجمع الجميع بكل اختلافاتهم, الحكومة التي تعبر عن بعض هذا الجميع, فالحكومة هي التي تتغير, وليست الدولة ومقوماتها.
ولعل مشكلتنا الأهم في مصر الآن, ونحن نتطلع إلي دعم التطور الديمقراطي, هي عدم وجود التوافق الضروري علي مقومات الدولة التي ينبغي أن نتفق عليها ونلتزم بها جميعا, فلا يسعي بعضنا إلي تغيير بشكل منفرد حتي إذا فاز في الانتخابات بزعم أن هذا الفوز يمنحه تفويضا مطلقا, فالتفويض الانتخابي الديمقراطي هو تفويض محدود سواء زمنيا حتي موعد الانتخابات التالية, أو موضوعيا لأنه مقيد بالمقومات التي تم التوافق عليها بين الأحزاب والقوي السياسية كلها.
ومن أهم الأسباب التي تحول دون إيجاد التوافق الضروري علي مقومات الدولة أننا, في مصر والعالم العربي عموما, لم نحسم قضية العلاقة بين الدولة والدين, وبالتالي بين السياسة والدين, علي مدي نحو قرنين منذ أن دخلنا مرحلة الدولة شبه الحديثة في عصر محمد علي.
بقيت تلك العلاقة موضع خلاف يتسع حينا ويضيق حينا آخر إلي أن تنامي الإسلام السياسي وجماعاته مؤديا إلي ازدياد هذا الخلاف وتحويله إلي عقدة يصعب المضي قدما في التطور الديمقراطي بدون فكها. ففي ظل هذه العقدة التي استحكمت في الفترة الأخيرة, أصبح الخلاف علي طبيعة الدولة وليس فقط علي مقوماتها.
ويصل هذا الخلاف إلي حد أن بعض أنصار الدولة العلمانية( التي تفصل تماما بين الدولة والدين) اتهموا الرئيس الراحل أنور السادات بأنه أقام دولة شبه دينية منذ أن استخدم الدين في مواجهة خصومه اليساريين ورفع شعار( دولة العلم والإيمان) وصولا إلي تعديل المادة الثانية في الدستور لتنص علي أن مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي وليس فقط مصدرا رئيسيا للتشريع.
غير أنه ربما يكون المظهر الأهم للخلاف علي طبيعة الدولة, وليس فقط علي مقوماتها, الآن هو شيوع استخدام مفهوم الدولة المدنية دون تعريف له أو تحديد لمدلوله ونطاقه, فليس هناك تأصيل لما يسمي الدولة المدنية في النظرية السياسية المعاصرة, ولا في الفكر السياسي, اللهم إلا شذرات متناثرة لاتحمل معني محددا. ففي الأدبيات السياسية والاجتماعية في العالم مفهوم محدد للمجتمع المدني, ومفهوم معين للثقافة المدنية, ولكن ليس هناك مايسمي دولة مدنية.
وبدون تأصيل لما تعنيه هذه الدولة فلا مبرر لمطالبة بعضنا بالنص عليها في الدستور, خصوصا أن المعني الشائع لكلمة مدني لدي معظم الناس هو أنها تقابل كلمة عسكري. أما المعني التاريخي لكلمة مدني في الثقافة الغربية فقد تأثر بالثورة الصناعية والتغيير الذي أحدثته في حياة الأوروبيين. وكان أحد أهم جوانب هذا التغيير هو الانتقال من المجتمع الزراعي الريفي إلي المجتمع الصناعي الحضري, واكتسبت كلمة مدني مدلولها الأساسي في الثقافة والمجتمع من التحول التاريخي الذي ترتب علي ذلك التطور.
ولذلك فإذا كان استخدام تعبير الدولة المدنية ضروريا, فلابد من تأصيله وتحديد مدلوله ونطاقه ومقوماته بوضوح, بحيث لايبقي تعريفه بالسلب فقط. فالاستخدام الشائع لتعبير الدولة المدنية لايفيد سوي أنها ليست الدولة الدينية التي يرفضها مستخدموه.
وكان هذا هو الدافع الأساسي وراء استخدام تعبير الدولة المدنية, حين شعر البعض بأن مفهوم الدولة العلمانية لم يعد مقبولا, وأن هناك سوء فهم شائعا له جعله سييء السمعة. صحيح أن هناك من لايعتبرون تعبير الدولة المدنية مجرد صياغة أفضل من الدولة العلمانية, ولكنهم لم يبلوروه نظريا, ولم يبحثوا عن مرجعية له, لأن الاكتفاء بالإحالة إلي دولة محمد علي لايفيد في ذلك. فنظام هذه الدولة, مثله مثل اتجاه بارز في الفكر العربي انتشر لفترة طويلة في القرنين الماضيين, كان أقرب إلي التلفيق( بين الدولة والدين) منه إلي التوفيق الخلاق الذي يقوم علي حوار في العمق يقود إلي توافق علي العلاقة بينهما.
ولأننا مازلنا في إطار فكر التلفيق, وليس التوفيق والتوافق, فقد وجد بعض دعاة الدولة الدينية الأمر سهلا للغاية فلجأوا بدورهم إلي تعبير الدولة المدنية علي أن تكون لها مرجعية إسلامية.
ومثلهم مثل من استخدموا هذا التعبير بدون ربطه بمرجعية معينة, ولكن فهم أن مرجعيتهم علمانية أو شبه علمانية, لم يبذل الذين لجأوا إليه كبديل عن تعبير الدولة الدينية جهدا لبلورته أو تقديم أي تأصيل له.
ولذلك تظل الأسئلة الأساسية التي يثيرها الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية بلا إجابة. ومنها,علي سبيل المثال لا الحصر, كيف يتم تجسيد المرجعية عمليا ونظاميا, ومن يعبر عنها وكيف.
وهل ستجسد في هيئة مابعينها, وأي صورة ستكون عليها, وكيف يتم اختيار أعضائها, وأي علاقة ستقام بين هذه المرجعية والأزهر الشريف, وما موقع هذه الجامعة الإسلامية العريقة أصلا في الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية؟ فهذه الأسئلة, وغيرها كثير, تكشف أن الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية هو مجرد شعار فضفاض مثله مثل الكلام عن دولة مدنية بلا مرجعية.
وسواء قدم أصحاب تعبير الدولة المدنية, سواء هذه أو تلك, تأصيلا للمقصود بها واضحا ومحددا, أو لم يقدموا, فعلينا أن نعمل من أجل بناء توافق وطني علي مقومات الدولة الديمقراطية انطلاقا من مفاهيم أساسية مثل المواطنة والتعددية واحترام الآخر وحكم القانون في إطار المباديء العامة للإسلام والخبرات المتراكمة للممارسة الديمقراطية في العالم والاتجاهات الرئيسة في الشرعية الدولية لحقوق الإنسان, فإذا توافقنا علي ذلك, فلن نكون في حاجة إلي أن نسمي الدولة الديمقراطية المعبرة عن هذا التوافق دولة مدنية. يكفي أن تكون دولة ديمقراطية.
مواضيع مماثلة
» يوم في مدرسة الديمقراطية
» :طبيعة دولة الرسول الأعظم في المدينة
» العلمانية بين سلطة الدولة وسلطة الدين
» :طبيعة دولة الرسول الأعظم في المدينة
» العلمانية بين سلطة الدولة وسلطة الدين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى