:طبيعة دولة الرسول الأعظم في المدينة
صفحة 1 من اصل 1
:طبيعة دولة الرسول الأعظم في المدينة
يعتمد الفكر السياسي السني في بناء نظرية الخلافة، بالدرجة الأولى ، على تجربة الخلفاء الراشدين، التي يرى فيها نموذجا أعلى للحكم في الاسلام، ومصدراً من مصادر التشريع السياسي، باعتبار "الإجماع" الذي تحقق بين أصحاب رسول الله (ص) حول كثير من الأمور الدستورية. وربما كانت أهم مسألة في تلك التجربة هي مسألة الصبغة الدينية للخلافة وفيما إذا كان قيامها على أساس السمع أو العقل، حيث يشكل ذلك الجدل، الذي دار في وقت متأخر، مفترقاً للحكم على تجربة الخلافة بأنها كانت حكما دينيا أو مدنيا.
ولذا فإن من المهم جدا التوقف عند هذه النقطة، والنظر في طبيعة الدولة في الاسلام وهل هي جزء من الدين؟ وبالتالي فلا يجوز الابتداع فيها. أو أنها من الأمور التي تركها الاسلام للمسلمين وللعقل الانساني لكي يبدع فيها ما يشاء حسب الحاجة والظروف؟
وقبل أن نتحدث عن تجربة الخلفاء الراشدين، يجدر بنا التوقف عند تجربة الرسول السياسية وعلاقته بالممالك العربية المسلمة التي كانت قائمة في عهده. فبالرغم من أن الرسول الأعظم كان يمتلك شرعية سماوية إلا انه أقام دولته في المدينة على أساس احترام دور الأمة. وتضمنت البيعة التي أخذها من المسلمين:الالتزام بطاعة الرسول وعدم عصيانه في معروف، بالإضافة الى نبذ الشرك وتجنب السرقة والزنا والقتل. ولم تكن البيعة تفويضاً مطلقاً من المسلمين للنبي أو خضوعاً من طرف واحد لحكم مطلق، وإنما كانت أشبه بعقد بين طرفين يستلزم حقوقاً وواجبات لكلا الطرفين، فقد جاء في قصة البيعة التي أسست لدولة الرسول في المدينة أن أحد الأنصار وهو أبو الهيثم مالك ابن التيهان سأل النبي (ص) قبل البيعة، عن موقفه إذا ما قامت الحرب بين قوم الأنصاري من الخزرج وبين اليهود بالمدينة، وعما إذا كان سيبقى معهم أم هو تاركهم؟ فرد الرسول قائلا: "بل الدم الدم ، الهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم".[1] وبناء على ذلك لم يتخذ الرسول قرار الحرب بنفسه، عندما واجه قريشا في بدر، إلا بعد موافقة الأنصار.
ولم يكن الرسول يهتم بفرض سلطته السياسية على القبائل العربية التي كانت تدخل في الاسلام، بقدر ما كان يهمه أمر التوحيد والصلاة والزكاة. ولذلك لم يتدخل (ص) كثيرا في أمور السياسة المحلية للقبائل والشعوب التي كانت تعلن الإسلام. وإنما كان يخاطب الملوك المعاصرين له ويدعوهم الى الإيمان برسالته ويعدهم بالمحافظة على ملكهم تحت أيديهم. وقد ترك الأمراء والملوك والأقيال والسلاطين الذين أسلموا في حياته على ما هم عليه، ولم يطلب منهم التخلي عن سلطاتهم السياسية لسلطته.[2]
وعندما أسلم جبلة بن الأيهم، وهو أحد ملوك الغساسنة، ظل ملكا على قومه الى أن ارتد في عهد عمر في قصة معروفة. وكذلك عندما أسلم ملوك حمير أبقاهم رسول الله على مكانتهم.[3] وأرسل اليهم معاذ بن جبل يعلمهم الدين ويقضي بينهم، وكتب اليهم عهدا جاء فيه:"هذا عهد محمد بن عبد الله رسول الله الى معاذ بن جبل وأهل اليمن حين ولاه أمرهم فيهم... وان يكون أبا رحيما يتفقد صلاح أمورهم... وإني لم ابعث عليكم معاذا رباً، وإنما بعثته أخاً ومعلماً ومنفذاً لأمر الله تعالى ومعطيا الذي عليه من الحق مما فعل ، فعليكم له السمع والطاعة والنصيحة في السر والعلانية، فان تنازعتم في شيء أو إرتبتم فيه فردوه الى الله والى كتابه عندكم، فان اختلفتم فردوه الى الله والى الرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلكم خير لكم وأحسن تأويلا".[4]
وكذلك فعل مع ملوك حضرموت الذين أمَّرَ عليهم أحدَهم وهو وائل بن حجر، وأمرهم بالسمع له والطاعة.[5] ووعد كثيرا من القبائل العربية التي أسلمت بأن يحافظ على ما بأيديها وان يولي عليها أمراءها.[6]
وقد خلت رسائل الرسول الى كسرى وقيصر وعظيم القبط من أية دعوة للتنازل عن الملك إليه، وإنما تضمنت فقط دعوتهم الى الدخول في الدين الجديد.[7]
وحسبما يقول الدكتور علي علي منصور: فقد " بقيت القبائل التي أعلنت إسلامها بعد فتح مكة مستقلة بشؤونها، على رأسها ساداتها وأمراؤها وحكامها، وقد كان النبي يبعث ممثلين له لتعليم الناس الأحكام وجمع الزكاة، ولم يطلب النبي من أمراء البلدان وشيوخ القبائل التنازل عن إمرتهم وسلطانهم، بل كانوا يتركون في مناصبهم بمجرد ما يعلنون إسلامهم ... ولذلك كانت دولة الرسول في أواخر أيامه أشبه بدولة اتحادية".[8]
إن كل ذلك يدل على ان الرسول محمد (ص) لم يكن بصدد تغيير الأنظمة السياسية القائمة بقدر ما كان يهتم بنشر الدعوة الاسلامية، فضلاً عن أن يكون بصدد تشكيل حكومة دينية مشابهة للحكومات اليهودية القديمة التي كان يقودها الكهنة والأحبار، أو مشابهة للحكومات المسيحية التي كان يقودها القياصرة بدعم من بابوات الكنيسة في العصور الوسطى. حيث لم يقر الرسول نظام ازدواج السلطتين الزمنية والدينية. ولم يؤسس سلطة دينية كالكنيسة عند المسيحيين، ولم يَكِل إليها مهمة منح الشرعية للملوك ولا مهمة محاسبتهم أو مراقبتهم.
وخلافا لعادة ملوك ورؤساء القبائل في تلك الأيام بتوريث الحكم والخلافة الى أبنائهم وأهل بيتهم، فان النبي محمد (ص) لم يعين أحدا خليفة من بعده – خلافا لما يقوله الشيعة الامامية والسنة البكرية - لا من أهل بيته ولا من أصحابه.[9] ولم يضع دستورا للحكم من بعده، ولم يتحدث عن أسلوب تداول السلطة وطريقة انتخاب الحاكم أو صلاحياته، ولا عن تفاصيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم،، كما لم يؤسس مجلسا للشورى يضمن انتقال السلطة بعده بشكل آلي لمن يريد. وإنما أعطى الأمة كلها الحق بإقامة نظامها السياسي المدني، وأوكل اليها مهمة مراقبة ذلك النظام ومحاسبته وتغييره.
وهذا ما يفسر الغموض والارتباك الذي اعترى المسلمين في عملية اختيار الإمام الأول بعد وفاة الرسول (ص) وحدوث بعض الإشكاليات التي اعترت عملية انتخاب أبي بكر ، حيث لم تكن دائرة الشورى التي تنتخب الإمام واضحة تماما، وهل تضم المهاجرين والأنصار؟ أم تقتصر على المهاجرين؟ أو على قريش عموما ؟ كما لم يكن واضحا أيضا: من هي الفئة التي يحق لها الترشح للإمامة؟ وهل هي مقتصرة على المهاجرين من قريش؟ أم تشمل الأنصار؟ وبقية الصحابة ممن أسلم بعد الفتح؟ إضافة الى غموض نقاط دستورية أخرى سوف يبتلى بها المسلمون في المستقبل.
ويمكن القول أيضا: ان الرسول (ص) ترك المسلمين في حالة الطبيعة أحراراً متساويين، دعاهم الى التزام العدل وحثهم على عمل الخير، وعلمهم ممارسة الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد أدرك الصحابة بعقولهم ضرورة إقامة خليفة لرسول الله لينفذ الشريعة الإسلامية وينجز المهام السياسية والعسكرية التي تركها الرسول، ولذلك بادروا الى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، واختاروا أبا بكر كأول خليفة للمسلمين.
ولا يوجد أي نص من الخلفاء الراشدين على كون الخطوة التي أقدموا عليها بإقامة الخلافة قائمة على أساس الدين أو السمع، ولذلك قال النجدات من الخوارج والأصم والفوطي من المعتزلة:" بأن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوبا لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب بل هي مبنية على معاملات الناس فان تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى استغنوا عن الإمام. وان الإمامة مبنية على معاملات الناس، فلو تعاونوا على البر والتقوى اصبحوا في غير حاجة الى إمام لأن المجتهدين من المسلمين متساوون والناس جميعا كأسنان المشط". و"ان الإمامة غير واجبة في الشرع، إلا ان الناس لو احتاجوا لمن يجمع شملهم ويقوم بحماية الإسلام فيجوز لهم ان ينصبوا إماما باجتهادهم".[10]
<hr align=right width="33%" SIZE=1>
[1] - حلمي، مصطفى، نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، ص 17
[2] - فقد بعث الى أمير الغساسنة في دمشق الحارث بن شمر الغساني، كتابا يقول فيه: " السلام على من اتبع الهدى وآمن به ، أدعوك الى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك". (تاريخ ابن خلدون ج2 ص 36) وقال للرسولين اللذين بعثهما باذان بن ساسان عامل كسرى على اليمن:" قولا له: إن ديني وسلطاني يبلغ ما بلغ كسرى، وان أسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكتك على قومك من الأبناء". (المصدر، ج2 ص 38 ) وكتب الى المنذر بن ساوي العبدي عامل كسرى على البحرين:"...سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك الى الإسلام فأسلم تسلم يجعل الله لك ما تحت يديك. واعلم أن ديني سيظهر الى منتهى الخف والحافر". (مكاتيب الرسول، ص 145 ) كما كتب الى هوذة بن علي ملك اليمامة: "... أسلم تسلم ، واجعل لك ما تحت يديك". (المصدر، ص 156) وكتب الى جيفر وعبد ابني الجلندي في عمان يدعوهما بدعاء الإسلام ، ويقول لهما: "اسلما تسلما، فإني رسول الله الى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين. وإنكما ان أقررتما بالإسلام وليتكما، وان أبيتما ان تقرا بالإسلام فان ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما". (المصدر، ص 162) وعندما عاهد النبي أهل مقنا، اتفق معهم على"...ان ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم". (المصدر، ص 120 و 122)
[3] - وكتب الى خالد بن ضماد الأزدي رسالة خاصة جاء فيها:"... إن له ما اسلم عليه من أرضه على أن يؤمن بالله لا شريك له ويشهد ان محمدا عبده ورسوله... وعلى محمد النبي أن يمنع منه نفسه وماله وأهله، وان لخالد الأزدي ذمة الله وذمة محمد النبي ان وفى بهذا". المصدر، ص238
[4] - المصدر، ص 213
[5] - كتب اليهم: من محمد رسول الله الى وائل بن حجر والأقيال والعباهلة والأرواع المشابيب من حضرموت... ووائل بن حجر يترفل على الأقيال ، أمير أمره رسول الله فاسمعوا واطعيوا. المصدر، ص 250
[6] - وكتب الى ثقيف عهداً بأنه " لا يؤمِّر عليهم إلا بعضَهم على بعض، على بني مالك أميرهم وعلى الأحلاف أميرهم". (المصدر، ص 285) وكتب الى عامر بن الأسود الطائي :" أن له ولقومه من طي ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وفارقوا المشركين".(المصدر، ص 299) وكتب الى حبيب بن عمرو أخي بني أجا، ولمن أسلم من قومه وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، أن له ماله وماءه وما عليه حاضره وباديه، على ذلك عهد الله وذمة رسوله.(المصدر، ص 301)
[7] - جاء في رسالته الى كسرى : " بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأن ّمحمّداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية اللّه، فإنّي أنا رسول اللّه كافة لأَنذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين. أسلم تسلم. فإن أبيت فعليك إثم المجوس".
[8] - منصور، علي علي، نظم الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، ص 227
[9] - قال الامامية من الشيعة بوجود نص من الرسول الأعظم على الإمام علي بالخلافة بعده ، وبكونها في ذريته الى يوم القيامة، وكذلك قال البكرية من أهل السنة بوجود نص من الرسول على أبي بكر انه خليفة من بعده، وقد ظهر هذان القولان في القرن الثاني للهجرة، ولم يكن لهما أثر واضح في الأيام الأولى التي تلت وفاة الرسول. وسوف نشير في الفصول التالية الى سياق ظهور هاذين المذهبين (أو المدرستين الدستوريتين) وظروف نشأتهما.
[10] - حلمي، مصطفى، نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، ص398 و 406
ولذا فإن من المهم جدا التوقف عند هذه النقطة، والنظر في طبيعة الدولة في الاسلام وهل هي جزء من الدين؟ وبالتالي فلا يجوز الابتداع فيها. أو أنها من الأمور التي تركها الاسلام للمسلمين وللعقل الانساني لكي يبدع فيها ما يشاء حسب الحاجة والظروف؟
وقبل أن نتحدث عن تجربة الخلفاء الراشدين، يجدر بنا التوقف عند تجربة الرسول السياسية وعلاقته بالممالك العربية المسلمة التي كانت قائمة في عهده. فبالرغم من أن الرسول الأعظم كان يمتلك شرعية سماوية إلا انه أقام دولته في المدينة على أساس احترام دور الأمة. وتضمنت البيعة التي أخذها من المسلمين:الالتزام بطاعة الرسول وعدم عصيانه في معروف، بالإضافة الى نبذ الشرك وتجنب السرقة والزنا والقتل. ولم تكن البيعة تفويضاً مطلقاً من المسلمين للنبي أو خضوعاً من طرف واحد لحكم مطلق، وإنما كانت أشبه بعقد بين طرفين يستلزم حقوقاً وواجبات لكلا الطرفين، فقد جاء في قصة البيعة التي أسست لدولة الرسول في المدينة أن أحد الأنصار وهو أبو الهيثم مالك ابن التيهان سأل النبي (ص) قبل البيعة، عن موقفه إذا ما قامت الحرب بين قوم الأنصاري من الخزرج وبين اليهود بالمدينة، وعما إذا كان سيبقى معهم أم هو تاركهم؟ فرد الرسول قائلا: "بل الدم الدم ، الهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم".[1] وبناء على ذلك لم يتخذ الرسول قرار الحرب بنفسه، عندما واجه قريشا في بدر، إلا بعد موافقة الأنصار.
ولم يكن الرسول يهتم بفرض سلطته السياسية على القبائل العربية التي كانت تدخل في الاسلام، بقدر ما كان يهمه أمر التوحيد والصلاة والزكاة. ولذلك لم يتدخل (ص) كثيرا في أمور السياسة المحلية للقبائل والشعوب التي كانت تعلن الإسلام. وإنما كان يخاطب الملوك المعاصرين له ويدعوهم الى الإيمان برسالته ويعدهم بالمحافظة على ملكهم تحت أيديهم. وقد ترك الأمراء والملوك والأقيال والسلاطين الذين أسلموا في حياته على ما هم عليه، ولم يطلب منهم التخلي عن سلطاتهم السياسية لسلطته.[2]
وعندما أسلم جبلة بن الأيهم، وهو أحد ملوك الغساسنة، ظل ملكا على قومه الى أن ارتد في عهد عمر في قصة معروفة. وكذلك عندما أسلم ملوك حمير أبقاهم رسول الله على مكانتهم.[3] وأرسل اليهم معاذ بن جبل يعلمهم الدين ويقضي بينهم، وكتب اليهم عهدا جاء فيه:"هذا عهد محمد بن عبد الله رسول الله الى معاذ بن جبل وأهل اليمن حين ولاه أمرهم فيهم... وان يكون أبا رحيما يتفقد صلاح أمورهم... وإني لم ابعث عليكم معاذا رباً، وإنما بعثته أخاً ومعلماً ومنفذاً لأمر الله تعالى ومعطيا الذي عليه من الحق مما فعل ، فعليكم له السمع والطاعة والنصيحة في السر والعلانية، فان تنازعتم في شيء أو إرتبتم فيه فردوه الى الله والى كتابه عندكم، فان اختلفتم فردوه الى الله والى الرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلكم خير لكم وأحسن تأويلا".[4]
وكذلك فعل مع ملوك حضرموت الذين أمَّرَ عليهم أحدَهم وهو وائل بن حجر، وأمرهم بالسمع له والطاعة.[5] ووعد كثيرا من القبائل العربية التي أسلمت بأن يحافظ على ما بأيديها وان يولي عليها أمراءها.[6]
وقد خلت رسائل الرسول الى كسرى وقيصر وعظيم القبط من أية دعوة للتنازل عن الملك إليه، وإنما تضمنت فقط دعوتهم الى الدخول في الدين الجديد.[7]
وحسبما يقول الدكتور علي علي منصور: فقد " بقيت القبائل التي أعلنت إسلامها بعد فتح مكة مستقلة بشؤونها، على رأسها ساداتها وأمراؤها وحكامها، وقد كان النبي يبعث ممثلين له لتعليم الناس الأحكام وجمع الزكاة، ولم يطلب النبي من أمراء البلدان وشيوخ القبائل التنازل عن إمرتهم وسلطانهم، بل كانوا يتركون في مناصبهم بمجرد ما يعلنون إسلامهم ... ولذلك كانت دولة الرسول في أواخر أيامه أشبه بدولة اتحادية".[8]
إن كل ذلك يدل على ان الرسول محمد (ص) لم يكن بصدد تغيير الأنظمة السياسية القائمة بقدر ما كان يهتم بنشر الدعوة الاسلامية، فضلاً عن أن يكون بصدد تشكيل حكومة دينية مشابهة للحكومات اليهودية القديمة التي كان يقودها الكهنة والأحبار، أو مشابهة للحكومات المسيحية التي كان يقودها القياصرة بدعم من بابوات الكنيسة في العصور الوسطى. حيث لم يقر الرسول نظام ازدواج السلطتين الزمنية والدينية. ولم يؤسس سلطة دينية كالكنيسة عند المسيحيين، ولم يَكِل إليها مهمة منح الشرعية للملوك ولا مهمة محاسبتهم أو مراقبتهم.
وخلافا لعادة ملوك ورؤساء القبائل في تلك الأيام بتوريث الحكم والخلافة الى أبنائهم وأهل بيتهم، فان النبي محمد (ص) لم يعين أحدا خليفة من بعده – خلافا لما يقوله الشيعة الامامية والسنة البكرية - لا من أهل بيته ولا من أصحابه.[9] ولم يضع دستورا للحكم من بعده، ولم يتحدث عن أسلوب تداول السلطة وطريقة انتخاب الحاكم أو صلاحياته، ولا عن تفاصيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم،، كما لم يؤسس مجلسا للشورى يضمن انتقال السلطة بعده بشكل آلي لمن يريد. وإنما أعطى الأمة كلها الحق بإقامة نظامها السياسي المدني، وأوكل اليها مهمة مراقبة ذلك النظام ومحاسبته وتغييره.
وهذا ما يفسر الغموض والارتباك الذي اعترى المسلمين في عملية اختيار الإمام الأول بعد وفاة الرسول (ص) وحدوث بعض الإشكاليات التي اعترت عملية انتخاب أبي بكر ، حيث لم تكن دائرة الشورى التي تنتخب الإمام واضحة تماما، وهل تضم المهاجرين والأنصار؟ أم تقتصر على المهاجرين؟ أو على قريش عموما ؟ كما لم يكن واضحا أيضا: من هي الفئة التي يحق لها الترشح للإمامة؟ وهل هي مقتصرة على المهاجرين من قريش؟ أم تشمل الأنصار؟ وبقية الصحابة ممن أسلم بعد الفتح؟ إضافة الى غموض نقاط دستورية أخرى سوف يبتلى بها المسلمون في المستقبل.
ويمكن القول أيضا: ان الرسول (ص) ترك المسلمين في حالة الطبيعة أحراراً متساويين، دعاهم الى التزام العدل وحثهم على عمل الخير، وعلمهم ممارسة الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد أدرك الصحابة بعقولهم ضرورة إقامة خليفة لرسول الله لينفذ الشريعة الإسلامية وينجز المهام السياسية والعسكرية التي تركها الرسول، ولذلك بادروا الى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، واختاروا أبا بكر كأول خليفة للمسلمين.
ولا يوجد أي نص من الخلفاء الراشدين على كون الخطوة التي أقدموا عليها بإقامة الخلافة قائمة على أساس الدين أو السمع، ولذلك قال النجدات من الخوارج والأصم والفوطي من المعتزلة:" بأن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوبا لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب بل هي مبنية على معاملات الناس فان تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى استغنوا عن الإمام. وان الإمامة مبنية على معاملات الناس، فلو تعاونوا على البر والتقوى اصبحوا في غير حاجة الى إمام لأن المجتهدين من المسلمين متساوون والناس جميعا كأسنان المشط". و"ان الإمامة غير واجبة في الشرع، إلا ان الناس لو احتاجوا لمن يجمع شملهم ويقوم بحماية الإسلام فيجوز لهم ان ينصبوا إماما باجتهادهم".[10]
<hr align=right width="33%" SIZE=1>
[1] - حلمي، مصطفى، نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، ص 17
[2] - فقد بعث الى أمير الغساسنة في دمشق الحارث بن شمر الغساني، كتابا يقول فيه: " السلام على من اتبع الهدى وآمن به ، أدعوك الى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك". (تاريخ ابن خلدون ج2 ص 36) وقال للرسولين اللذين بعثهما باذان بن ساسان عامل كسرى على اليمن:" قولا له: إن ديني وسلطاني يبلغ ما بلغ كسرى، وان أسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكتك على قومك من الأبناء". (المصدر، ج2 ص 38 ) وكتب الى المنذر بن ساوي العبدي عامل كسرى على البحرين:"...سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك الى الإسلام فأسلم تسلم يجعل الله لك ما تحت يديك. واعلم أن ديني سيظهر الى منتهى الخف والحافر". (مكاتيب الرسول، ص 145 ) كما كتب الى هوذة بن علي ملك اليمامة: "... أسلم تسلم ، واجعل لك ما تحت يديك". (المصدر، ص 156) وكتب الى جيفر وعبد ابني الجلندي في عمان يدعوهما بدعاء الإسلام ، ويقول لهما: "اسلما تسلما، فإني رسول الله الى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين. وإنكما ان أقررتما بالإسلام وليتكما، وان أبيتما ان تقرا بالإسلام فان ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما". (المصدر، ص 162) وعندما عاهد النبي أهل مقنا، اتفق معهم على"...ان ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم". (المصدر، ص 120 و 122)
[3] - وكتب الى خالد بن ضماد الأزدي رسالة خاصة جاء فيها:"... إن له ما اسلم عليه من أرضه على أن يؤمن بالله لا شريك له ويشهد ان محمدا عبده ورسوله... وعلى محمد النبي أن يمنع منه نفسه وماله وأهله، وان لخالد الأزدي ذمة الله وذمة محمد النبي ان وفى بهذا". المصدر، ص238
[4] - المصدر، ص 213
[5] - كتب اليهم: من محمد رسول الله الى وائل بن حجر والأقيال والعباهلة والأرواع المشابيب من حضرموت... ووائل بن حجر يترفل على الأقيال ، أمير أمره رسول الله فاسمعوا واطعيوا. المصدر، ص 250
[6] - وكتب الى ثقيف عهداً بأنه " لا يؤمِّر عليهم إلا بعضَهم على بعض، على بني مالك أميرهم وعلى الأحلاف أميرهم". (المصدر، ص 285) وكتب الى عامر بن الأسود الطائي :" أن له ولقومه من طي ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وفارقوا المشركين".(المصدر، ص 299) وكتب الى حبيب بن عمرو أخي بني أجا، ولمن أسلم من قومه وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، أن له ماله وماءه وما عليه حاضره وباديه، على ذلك عهد الله وذمة رسوله.(المصدر، ص 301)
[7] - جاء في رسالته الى كسرى : " بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأن ّمحمّداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية اللّه، فإنّي أنا رسول اللّه كافة لأَنذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين. أسلم تسلم. فإن أبيت فعليك إثم المجوس".
[8] - منصور، علي علي، نظم الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، ص 227
[9] - قال الامامية من الشيعة بوجود نص من الرسول الأعظم على الإمام علي بالخلافة بعده ، وبكونها في ذريته الى يوم القيامة، وكذلك قال البكرية من أهل السنة بوجود نص من الرسول على أبي بكر انه خليفة من بعده، وقد ظهر هذان القولان في القرن الثاني للهجرة، ولم يكن لهما أثر واضح في الأيام الأولى التي تلت وفاة الرسول. وسوف نشير في الفصول التالية الى سياق ظهور هاذين المذهبين (أو المدرستين الدستوريتين) وظروف نشأتهما.
[10] - حلمي، مصطفى، نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، ص398 و 406
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى