الفارابي باحثاً اجتماعياً
صفحة 1 من اصل 1
الفارابي باحثاً اجتماعياً
مدخل :
الفارابي هو : أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان ، وهو يلقب بالمعلم الثاني ، أي بعد أرسطو ، باعتبار أن أرسطو أطلق عليه المعلم الأول .
والفارابي تركي الأصل ، تثقف في بغداد العباسية ، وعاش الشطر الثاني من حياته في بلاط سيف الدولة الحمداني ، شمالي مدينة حلب السورية ، وكانت وفاته عام 339 هـ = 950 م ، بعد أن خلف لنا تراثاً كبيراً من المؤلفات النافعة المفيدة .
كان الفارابي فيلسوفاً ، ميتافيزيقي الروح مثالي النزعات ، ميالاً إلى التوفيق بين المذاهب ، وهو الذي أدخل مذهب (الصدور) في الفلسفة الإسلامية .
وفلسفة الفارابي نجدها تبتدئ في الأعم الأغلب من مجردات الذهن ، خصوصاً عندما يتكلم عن مفهوم الوجود ، كما نجدها تسير على منهج استنباطي ، منطقي ، وهذه هي طريقته في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى .
لقد كانت حياته الفكرية خصبة جداً ، ألف كتباً كثيرة ، ضاع أكثرها ، على أنه اشتهر بين العرب بشروحه على فلسفة أرسطو ، ولكن همة الفارابي لم تقف عند الشروح فقط لا غير ، بل ألف طائفة صالحة من الرسائل أوضح فيها فلسفته الخاصة ، مثل : (فصوص الحكم) ، و (إحصاء العلوم) ، و (الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو) ، (السياسات المدنية) ، (أراء أهل المدينة الفاضلة) ، (تحصيل السعادة) وغيرها ...
كان الفارابي يميل إلى التأمل والنظر ، ويفضل العزلة والهدوء ، بدأ شبابه متفلسفاً ، وقضى كهولته متفننأً ، وختم حياته متصوفاً ، وذكروا أنه كان لا يتواجد غالباً إلا في مجتمع ماء ، أو مشتبك رياض ، ويؤلف كتبه هناك .
آراء أهل المدينة الفاضلة :
يعتبر كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي من أكثر كتبه التي نالت الحظ الكبير من البحث والدراسة ، وقد نشره المستشرق / فريدريخ ديتريش في مدينة ليدن الهولندية ، سنة 1895 م ، ثم نشره الأستاذ / ألبير نصري نادر ، في تحقيق جيد ، مع مقدمة مفيدة ، وكان صدوره في بيروت ، سنة 1959 م ، في 162 صفحة ، ثم أعيد طبعه أكثر من مرة ، كان آخرها ـ حسب معلوماتي ـ في بيروت عن دار المشرق ، سنة 1972 م .
ويمثل هذا الكتاب كثيراً من جوانب فلسفة الفارابي النظرية / المثالية ، من حيث ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الكامل من الناحية الفكرية ، أي من ناحية جملة الآراء التي يجب أن يعلمها ويتعلمها أعضاء المجتمع الفاضل .
ومن الناحية العملية ، أي ناحية شروط الحياة الفاضلة الكاملة ، وعليه ينقسم كتاب الفارابي إلى قسمين :
القسم الأول : القسم الفلسفي : وهو عبارة عن جملة نظرة الفارابي للوجود ، ويشمل الكلام في الموجود الأول ، وهو الله عز وجل ، وفي وحدانيته ، وفي صفاته ، وفي كيفية صدور الموجودات عنه ، وذلك بحسب مراتبها ، وفي أجسام العالم ، وفي النفس الإنسانية ، وقواها ، ونظريته في الوحي ، هذا مع بيان موقف الإنسان بين مراتب الموجودات .
القسم الثاني : القسم السياسي : وهو يتضمن نظرية الفارابي في المجتمع ، ورياسته ، وصفات العضو الرئيس فيه ، وتصوره للمجتمعات غير الكاملة وصفاتها .
وهنا نجد نظريات طريفة شبيهة إلى حد كبير بالنظريات الحديثة فيما يتعلق بطبيعة تكوين المجتمع ، وبنشأة المجتمعات ، مثل : نظرية العقد الاجتماعي ، وفلسفة القوة ، ونشأة الأخلاق ، وأهمية ودور الدين والتدين .
وبالطبع هذه الجوانب تهم بشكل أو بآخر الباحث الاجتماعي الذي يريد أن يدرس فكر الفارابي من الزاوية الاجتماعية ، ونحب أن نقول هنا : إن الفارابي سبق الكثيرين من المفكرين الغربيين في الموضوعات والجوانب والنظريات التي ذهب إليها ، وقام ببحثها ، ولعل هذا أيضاً مما استلفت نظر الباحثين الأوربيين ، ويستحق أكثر من دراسة علمية جديدة تبرز دور الفارابي ، وتعطيه حقه ومكانته ، كرائد اجتماعي سبق عصره .
نعود لنقول : إن كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) يشبه كتاب (السياسات المدنية) للفارابي أيضاً ، من حيث الموضوع والتقسيم .
من أجل مجتمع فاضل :
نؤكد هنا على أن الفارابي واحد من المفكرين المسلمين الذين برعوا في دراسة الموضوعات السياسية والاجتماعية والفلسفية ، بأسلوب يختط في بحثه المنهج العلمي إلى حد كبير ، ولعل ذلك نراه جلياً في كتابه : (السياسات المدنية) ، وكذلك كتابه : (آراء أهل المدينة الفاضلة) .
والكتاب الأخير من أشهر مؤلفات الفارابي في الفلسفة والاجتماع ، وكان على غرار كتاب : (جمهورية أفلاطون) الذي ظهر في اليونان ، عندما كانت الحضارة اليونانية في أوج عظمتها وعزتها .
وهدف الفارابي من تأليف كتاب (أهل المدينة الفاضلة) وهو تكوين مجتمع فاضل ، وجمهورية مثالية ، شبيهة بجمهورية أفلاطون .
وكتاب (أهل المدينة الفاضلة) يعتمد على أفكاره الفلسفية ، كما اعتمد أفلاطون على تعاليمه الفلسفية عند كتابته لكتابه (الجمهورية) .
لقد اعتمد أبو نصر الفارابي في القسم الأول من كتابه على مبادئ الدين الإسلامي ، فتكلم عن أجزاء النفس الإنسانية ، أو أجزاء الروح ووظائفها ، كما تناول قضايا تتعلق بالإرادة والاختيار ، وهو الجزء أو القسم الفلسفي الذي اهتم فيه بالأسس الفلسفية التي تستند عليها المدينة الفاضلة ، والذي استهله بالكلام عن صفات المولى عز وجل ، وأهميته في خلق الموجودات والكائنات .
أما القسم الثاني فقد أوضح فيه المبادئ أو الأسس التي تقوم عليها المدينة الفاضلة ، وواضح أن الرجل قد تأثر بآراء أفلاطون وأرسطو .
ولكن الذي يهمنا في هذه السطور هو : أن أهم المسائل الاجتماعية والسياسية التي عالجها الفارابي في كتابه هي مسألة : تحليل حقيقة الاجتماع الإنساني ، أي : كيفية نشوء ، وظهور المجتمع ، وتقسيم المجتمعات البشرية ، وأسس المدينة الفاضلة ، وصفات قائدها .. إلى آخره .
حقيقة الاجتماع الإنساني :
لقد بدأ الفارابي أبحاثه الاجتماعية بتحليل حقيقة الاجتماع الإنساني ، والدوافع الأساسية في قيامه ، ولا ريب في أنه رجع في هذا الصدد إلى أرسطو ، عندما قال بأن الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه ، أي أنه : يحتاج إلى أشياء كثيرة لا يستطيع أن يحصل عليها ، أو يحصلها بمفرده ، فهو لا بد له من التعاون مع الآخرين من أعضاء جنسه البشري ، من أجل أن يبلغ الكمال .
والكمال الذي يقصده الفارابي هو السعادة ، والسعادة لا يتم للإنسان تحقيقها في نفسه إلا عن طريق التعاون المادي ، ومعه ـ وهذا هو الأهم ـ التعاون الروحي أو الفكري ، فالسعادة تتصل بتحقيق الأشياء المادية والروحية في آن واحد .
ورغبة الإنسان في تحقيق السعادة لا يمكن أن تتم إلا إذا استطاع تكوين هيئة أو سلطة سياسية منظمة تتولى القيام بوظائف عديدة للأفراد (نيابة عن الأفراد) ، ومثل هذه الوظائف ينبغي أن تجلب السعادة للمجتمع ، وتحقق أماني وطموحات الأفراد .
والسعادة عندما تنتشر في المجتمع ، وانتشارها يعتمد على مبادئ العدالة والمساواة ، فإن المدينة الفاضلة التي تكلم عنها الفارابي سوف تظهر للعيان .
هذا ، وقد ذكر الفارابي وهو يشرح بإسهاب ، طبيعة المدينة الفاضلة ، ذكر أنها المدينة التي يتعاون أفرادها واحدهم مع الآخر ، بغرض نيل السعادة ، ويتخصص كل واحد منهم في أداء عمل معين .
وظائف المدينة :
وأهم وظائف المدينة وأكبرها خطراً وظيفة الرئاسة ، ذلك أن الرئيس هو منبع السلطة العليا ، والمثل الأعلى الذي تتحقق في شخصيته جميع معاني الكمال ، وهو مصدر حياة المدينة ، ودعامة نظامها .
ومنزلة الرئيس (حاكم المدينة) بالنسبة للأفراد كمنزلة القلب بالنسبة لسائر أنحاء الجسم . وعليه فإنه لا يصلح للرياسة ـ حسب اعتقاد الفارابي ـ إلا من زود بصفات وراثية ، ومكتسبة ، يتمثل فيها أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكمال في الجسم والعقل والعلم والخلق والدين .
ويشير إلى أن رئيس المدينة الفاضلة يجب أن يتصف بالمزايا التالية : ـ
1 ـ أن يكون الرئيس تام الأعضاء ، وسليم الحواس .
2 ـ أن يكون جيد الفهم .
3 ـ أن يكون جيد التصور لكل ما يقال أمامه .
4 ـ أن يكون ذكياً .
5 ـ أن يكون حسن العبارة ، وقوي اللسان .
6 ـ أن يكون محباً للعلم وللعلماء .
7 ـ أن يكون محباً للعدل ، كارهاً للظلم .
8 ـ أن يكون كبير النفس ، محباً للكرامة .
9 ـ يجب أن لا يهتم بجمع المال .
10 ـ أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل .
11 ـ أن يكون جسوراً ، مقداماً غير خائف .
12 ـ ألا يكون ضعيف النفس .
13 ـ أن يكون حكيماً ، وعالماً ، وحافظاً للشرائع ، والسنن ، والسير .
عندما تكون المدينة غير فاضلة !! :
كان هذا ما يتعلق بصفات وطبائع المدينة الفاضلة ، وماهية الصفات التي ينبغي أن تتوافر عند قائدها أو حاكمها ، أما المدينة غير الفاضلة فتكون على أشكال مختلفة ، كما ذهب أبو نصر الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة ، وهذه الأشكال أو الأنواع أو الأنماط هي كالأتي : ـ
أ ـ المدينة الجاهلة : وهي المدينة التي ينغمس أفرادها في الترف ، وفي الملذات البدنية ، وأهلها يقتصرون على الضروري من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والمسكون ، ولا يفكرون إلا في التعاون على نيل ذلك .
ب ـ المدينة الضالة : وهي المدينة التي يضل أهلها بالدين ، ويذهبون بصدد تفسير العقائد ، والطقوس تفسيراً ضالاً فاسداً ، غير مستقيم ، ويكون رئيس المدينة ضالاً ، ويظن أنه يوحى إليه ، فيخادع ، ويموه بأقواله وأفعاله .
ج ـ المدينة الفاسقة : وهي التي يعرف أهلها آراء واتجاهات المدينة الفاضلة ، ولكنهم يعملون ضدها ، كما أنها المدينة التي أصابها زيغ وانحراف ، حيث يعلم أهلها ما يعمله أهل المدينة الفاضلة من أسباب السعادة ، ويعتقدون ذلك كله ، ولكن أفعالهم تكون مثل أفعال أهل المدينة الجاهلة ، فهم يقولون بما يقول به أهل المدينة الفاضلة من غير أن يعملوا به .
د ـ مدينة الإباحية : وهي المدينة التي ليس فيها ضوابط اجتماعية وأخلاقية ، تستطيع السيطرة على سلوك أفرادها ، من أجل حياة أفضل لهم .
دعوة :
وختاماً لهذه السطور المتواضعة التي ألقينا فيها بعض الأضواء على إسهامات الفارابي في الفكر الاجتماعي ، ندعو الكتاب والباحثين إلى ضرورة الرجوع إلى التراث الاجتماعي العربي الذي يجسد أفكار الرواد الأوائل ، والاعتماد عليه في تفسير حقيقة الواقع الاجتماعي ، بعد الأخذ بعين الاعتبار المستجدات والتغيرات التي طرأت على علم الاجتماع في ضوء المساهمات الحديثة لعلماء الاجتماع في زماننا الراهن .
كما ينبغي أن يكون التراث الاجتماعي العربي هو الإطار المرجعي الأساسي للملامح الحديثة التي يتسم بها علم الاجتماع العربي .
إن علم الاجتماع العربي يجب أن نحدد خصوصياته وهويته القومية والحضارية التي تميزه عن علم الاجتماع البرجوازي ، أو علم الاجتماع الماركسي ، أو علم الاجتماع الغربي ، وغيره من مدارس علم الاجتماع ، وهذا هو دور كل المثقفين دون استثناء …
* باحث ومحاضر في الدراسات الإسلامية والعربية ، وخبير في الدفاع الاجتماعي
الأسانيد والمراجع
(1) أبو نصر الفارابي ، آراء أهل المدينة الفاضلة ، دار المشرق ، بيروت ، 1972 م .
(2) أبو نصر الفارابي ، تحصيل السعادة ، دار الأندلس بيروت ، 1981 م .
(3) محمد شفيق شيا ، الحاكم الفيلسوف عند أفلاطون والفارابي ، سلسلة ( دراسات عربية ) ، العدد 7 ، مايو ، 1985 م .
(4) دنيكن ميشيل ، معجم علم الاجتماع ، ترجمة : إحسان محمد الحسن ، دار الطليعة ، بيروت ، 1981 م .
(5) مصطفى الخشاب ، علم الاجتماع ومدارسة ، مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، 1975 م .
(6) إحسان محمد الحسن ، الأوليات التاريخية لاهتمامات العرب بعلم الاجتماع ، مجلة المورد ، العدد 3 ، وزارة الإعلام والثقافة العراقية ، 1986 م
الفارابي هو : أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان ، وهو يلقب بالمعلم الثاني ، أي بعد أرسطو ، باعتبار أن أرسطو أطلق عليه المعلم الأول .
والفارابي تركي الأصل ، تثقف في بغداد العباسية ، وعاش الشطر الثاني من حياته في بلاط سيف الدولة الحمداني ، شمالي مدينة حلب السورية ، وكانت وفاته عام 339 هـ = 950 م ، بعد أن خلف لنا تراثاً كبيراً من المؤلفات النافعة المفيدة .
كان الفارابي فيلسوفاً ، ميتافيزيقي الروح مثالي النزعات ، ميالاً إلى التوفيق بين المذاهب ، وهو الذي أدخل مذهب (الصدور) في الفلسفة الإسلامية .
وفلسفة الفارابي نجدها تبتدئ في الأعم الأغلب من مجردات الذهن ، خصوصاً عندما يتكلم عن مفهوم الوجود ، كما نجدها تسير على منهج استنباطي ، منطقي ، وهذه هي طريقته في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى .
لقد كانت حياته الفكرية خصبة جداً ، ألف كتباً كثيرة ، ضاع أكثرها ، على أنه اشتهر بين العرب بشروحه على فلسفة أرسطو ، ولكن همة الفارابي لم تقف عند الشروح فقط لا غير ، بل ألف طائفة صالحة من الرسائل أوضح فيها فلسفته الخاصة ، مثل : (فصوص الحكم) ، و (إحصاء العلوم) ، و (الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو) ، (السياسات المدنية) ، (أراء أهل المدينة الفاضلة) ، (تحصيل السعادة) وغيرها ...
كان الفارابي يميل إلى التأمل والنظر ، ويفضل العزلة والهدوء ، بدأ شبابه متفلسفاً ، وقضى كهولته متفننأً ، وختم حياته متصوفاً ، وذكروا أنه كان لا يتواجد غالباً إلا في مجتمع ماء ، أو مشتبك رياض ، ويؤلف كتبه هناك .
آراء أهل المدينة الفاضلة :
يعتبر كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي من أكثر كتبه التي نالت الحظ الكبير من البحث والدراسة ، وقد نشره المستشرق / فريدريخ ديتريش في مدينة ليدن الهولندية ، سنة 1895 م ، ثم نشره الأستاذ / ألبير نصري نادر ، في تحقيق جيد ، مع مقدمة مفيدة ، وكان صدوره في بيروت ، سنة 1959 م ، في 162 صفحة ، ثم أعيد طبعه أكثر من مرة ، كان آخرها ـ حسب معلوماتي ـ في بيروت عن دار المشرق ، سنة 1972 م .
ويمثل هذا الكتاب كثيراً من جوانب فلسفة الفارابي النظرية / المثالية ، من حيث ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الكامل من الناحية الفكرية ، أي من ناحية جملة الآراء التي يجب أن يعلمها ويتعلمها أعضاء المجتمع الفاضل .
ومن الناحية العملية ، أي ناحية شروط الحياة الفاضلة الكاملة ، وعليه ينقسم كتاب الفارابي إلى قسمين :
القسم الأول : القسم الفلسفي : وهو عبارة عن جملة نظرة الفارابي للوجود ، ويشمل الكلام في الموجود الأول ، وهو الله عز وجل ، وفي وحدانيته ، وفي صفاته ، وفي كيفية صدور الموجودات عنه ، وذلك بحسب مراتبها ، وفي أجسام العالم ، وفي النفس الإنسانية ، وقواها ، ونظريته في الوحي ، هذا مع بيان موقف الإنسان بين مراتب الموجودات .
القسم الثاني : القسم السياسي : وهو يتضمن نظرية الفارابي في المجتمع ، ورياسته ، وصفات العضو الرئيس فيه ، وتصوره للمجتمعات غير الكاملة وصفاتها .
وهنا نجد نظريات طريفة شبيهة إلى حد كبير بالنظريات الحديثة فيما يتعلق بطبيعة تكوين المجتمع ، وبنشأة المجتمعات ، مثل : نظرية العقد الاجتماعي ، وفلسفة القوة ، ونشأة الأخلاق ، وأهمية ودور الدين والتدين .
وبالطبع هذه الجوانب تهم بشكل أو بآخر الباحث الاجتماعي الذي يريد أن يدرس فكر الفارابي من الزاوية الاجتماعية ، ونحب أن نقول هنا : إن الفارابي سبق الكثيرين من المفكرين الغربيين في الموضوعات والجوانب والنظريات التي ذهب إليها ، وقام ببحثها ، ولعل هذا أيضاً مما استلفت نظر الباحثين الأوربيين ، ويستحق أكثر من دراسة علمية جديدة تبرز دور الفارابي ، وتعطيه حقه ومكانته ، كرائد اجتماعي سبق عصره .
نعود لنقول : إن كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) يشبه كتاب (السياسات المدنية) للفارابي أيضاً ، من حيث الموضوع والتقسيم .
من أجل مجتمع فاضل :
نؤكد هنا على أن الفارابي واحد من المفكرين المسلمين الذين برعوا في دراسة الموضوعات السياسية والاجتماعية والفلسفية ، بأسلوب يختط في بحثه المنهج العلمي إلى حد كبير ، ولعل ذلك نراه جلياً في كتابه : (السياسات المدنية) ، وكذلك كتابه : (آراء أهل المدينة الفاضلة) .
والكتاب الأخير من أشهر مؤلفات الفارابي في الفلسفة والاجتماع ، وكان على غرار كتاب : (جمهورية أفلاطون) الذي ظهر في اليونان ، عندما كانت الحضارة اليونانية في أوج عظمتها وعزتها .
وهدف الفارابي من تأليف كتاب (أهل المدينة الفاضلة) وهو تكوين مجتمع فاضل ، وجمهورية مثالية ، شبيهة بجمهورية أفلاطون .
وكتاب (أهل المدينة الفاضلة) يعتمد على أفكاره الفلسفية ، كما اعتمد أفلاطون على تعاليمه الفلسفية عند كتابته لكتابه (الجمهورية) .
لقد اعتمد أبو نصر الفارابي في القسم الأول من كتابه على مبادئ الدين الإسلامي ، فتكلم عن أجزاء النفس الإنسانية ، أو أجزاء الروح ووظائفها ، كما تناول قضايا تتعلق بالإرادة والاختيار ، وهو الجزء أو القسم الفلسفي الذي اهتم فيه بالأسس الفلسفية التي تستند عليها المدينة الفاضلة ، والذي استهله بالكلام عن صفات المولى عز وجل ، وأهميته في خلق الموجودات والكائنات .
أما القسم الثاني فقد أوضح فيه المبادئ أو الأسس التي تقوم عليها المدينة الفاضلة ، وواضح أن الرجل قد تأثر بآراء أفلاطون وأرسطو .
ولكن الذي يهمنا في هذه السطور هو : أن أهم المسائل الاجتماعية والسياسية التي عالجها الفارابي في كتابه هي مسألة : تحليل حقيقة الاجتماع الإنساني ، أي : كيفية نشوء ، وظهور المجتمع ، وتقسيم المجتمعات البشرية ، وأسس المدينة الفاضلة ، وصفات قائدها .. إلى آخره .
حقيقة الاجتماع الإنساني :
لقد بدأ الفارابي أبحاثه الاجتماعية بتحليل حقيقة الاجتماع الإنساني ، والدوافع الأساسية في قيامه ، ولا ريب في أنه رجع في هذا الصدد إلى أرسطو ، عندما قال بأن الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه ، أي أنه : يحتاج إلى أشياء كثيرة لا يستطيع أن يحصل عليها ، أو يحصلها بمفرده ، فهو لا بد له من التعاون مع الآخرين من أعضاء جنسه البشري ، من أجل أن يبلغ الكمال .
والكمال الذي يقصده الفارابي هو السعادة ، والسعادة لا يتم للإنسان تحقيقها في نفسه إلا عن طريق التعاون المادي ، ومعه ـ وهذا هو الأهم ـ التعاون الروحي أو الفكري ، فالسعادة تتصل بتحقيق الأشياء المادية والروحية في آن واحد .
ورغبة الإنسان في تحقيق السعادة لا يمكن أن تتم إلا إذا استطاع تكوين هيئة أو سلطة سياسية منظمة تتولى القيام بوظائف عديدة للأفراد (نيابة عن الأفراد) ، ومثل هذه الوظائف ينبغي أن تجلب السعادة للمجتمع ، وتحقق أماني وطموحات الأفراد .
والسعادة عندما تنتشر في المجتمع ، وانتشارها يعتمد على مبادئ العدالة والمساواة ، فإن المدينة الفاضلة التي تكلم عنها الفارابي سوف تظهر للعيان .
هذا ، وقد ذكر الفارابي وهو يشرح بإسهاب ، طبيعة المدينة الفاضلة ، ذكر أنها المدينة التي يتعاون أفرادها واحدهم مع الآخر ، بغرض نيل السعادة ، ويتخصص كل واحد منهم في أداء عمل معين .
وظائف المدينة :
وأهم وظائف المدينة وأكبرها خطراً وظيفة الرئاسة ، ذلك أن الرئيس هو منبع السلطة العليا ، والمثل الأعلى الذي تتحقق في شخصيته جميع معاني الكمال ، وهو مصدر حياة المدينة ، ودعامة نظامها .
ومنزلة الرئيس (حاكم المدينة) بالنسبة للأفراد كمنزلة القلب بالنسبة لسائر أنحاء الجسم . وعليه فإنه لا يصلح للرياسة ـ حسب اعتقاد الفارابي ـ إلا من زود بصفات وراثية ، ومكتسبة ، يتمثل فيها أقصى ما يمكن أن يصل إليه الكمال في الجسم والعقل والعلم والخلق والدين .
ويشير إلى أن رئيس المدينة الفاضلة يجب أن يتصف بالمزايا التالية : ـ
1 ـ أن يكون الرئيس تام الأعضاء ، وسليم الحواس .
2 ـ أن يكون جيد الفهم .
3 ـ أن يكون جيد التصور لكل ما يقال أمامه .
4 ـ أن يكون ذكياً .
5 ـ أن يكون حسن العبارة ، وقوي اللسان .
6 ـ أن يكون محباً للعلم وللعلماء .
7 ـ أن يكون محباً للعدل ، كارهاً للظلم .
8 ـ أن يكون كبير النفس ، محباً للكرامة .
9 ـ يجب أن لا يهتم بجمع المال .
10 ـ أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل .
11 ـ أن يكون جسوراً ، مقداماً غير خائف .
12 ـ ألا يكون ضعيف النفس .
13 ـ أن يكون حكيماً ، وعالماً ، وحافظاً للشرائع ، والسنن ، والسير .
عندما تكون المدينة غير فاضلة !! :
كان هذا ما يتعلق بصفات وطبائع المدينة الفاضلة ، وماهية الصفات التي ينبغي أن تتوافر عند قائدها أو حاكمها ، أما المدينة غير الفاضلة فتكون على أشكال مختلفة ، كما ذهب أبو نصر الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة ، وهذه الأشكال أو الأنواع أو الأنماط هي كالأتي : ـ
أ ـ المدينة الجاهلة : وهي المدينة التي ينغمس أفرادها في الترف ، وفي الملذات البدنية ، وأهلها يقتصرون على الضروري من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والمسكون ، ولا يفكرون إلا في التعاون على نيل ذلك .
ب ـ المدينة الضالة : وهي المدينة التي يضل أهلها بالدين ، ويذهبون بصدد تفسير العقائد ، والطقوس تفسيراً ضالاً فاسداً ، غير مستقيم ، ويكون رئيس المدينة ضالاً ، ويظن أنه يوحى إليه ، فيخادع ، ويموه بأقواله وأفعاله .
ج ـ المدينة الفاسقة : وهي التي يعرف أهلها آراء واتجاهات المدينة الفاضلة ، ولكنهم يعملون ضدها ، كما أنها المدينة التي أصابها زيغ وانحراف ، حيث يعلم أهلها ما يعمله أهل المدينة الفاضلة من أسباب السعادة ، ويعتقدون ذلك كله ، ولكن أفعالهم تكون مثل أفعال أهل المدينة الجاهلة ، فهم يقولون بما يقول به أهل المدينة الفاضلة من غير أن يعملوا به .
د ـ مدينة الإباحية : وهي المدينة التي ليس فيها ضوابط اجتماعية وأخلاقية ، تستطيع السيطرة على سلوك أفرادها ، من أجل حياة أفضل لهم .
دعوة :
وختاماً لهذه السطور المتواضعة التي ألقينا فيها بعض الأضواء على إسهامات الفارابي في الفكر الاجتماعي ، ندعو الكتاب والباحثين إلى ضرورة الرجوع إلى التراث الاجتماعي العربي الذي يجسد أفكار الرواد الأوائل ، والاعتماد عليه في تفسير حقيقة الواقع الاجتماعي ، بعد الأخذ بعين الاعتبار المستجدات والتغيرات التي طرأت على علم الاجتماع في ضوء المساهمات الحديثة لعلماء الاجتماع في زماننا الراهن .
كما ينبغي أن يكون التراث الاجتماعي العربي هو الإطار المرجعي الأساسي للملامح الحديثة التي يتسم بها علم الاجتماع العربي .
إن علم الاجتماع العربي يجب أن نحدد خصوصياته وهويته القومية والحضارية التي تميزه عن علم الاجتماع البرجوازي ، أو علم الاجتماع الماركسي ، أو علم الاجتماع الغربي ، وغيره من مدارس علم الاجتماع ، وهذا هو دور كل المثقفين دون استثناء …
* باحث ومحاضر في الدراسات الإسلامية والعربية ، وخبير في الدفاع الاجتماعي
الأسانيد والمراجع
(1) أبو نصر الفارابي ، آراء أهل المدينة الفاضلة ، دار المشرق ، بيروت ، 1972 م .
(2) أبو نصر الفارابي ، تحصيل السعادة ، دار الأندلس بيروت ، 1981 م .
(3) محمد شفيق شيا ، الحاكم الفيلسوف عند أفلاطون والفارابي ، سلسلة ( دراسات عربية ) ، العدد 7 ، مايو ، 1985 م .
(4) دنيكن ميشيل ، معجم علم الاجتماع ، ترجمة : إحسان محمد الحسن ، دار الطليعة ، بيروت ، 1981 م .
(5) مصطفى الخشاب ، علم الاجتماع ومدارسة ، مكتبة الأنجلو المصرية ، القاهرة ، 1975 م .
(6) إحسان محمد الحسن ، الأوليات التاريخية لاهتمامات العرب بعلم الاجتماع ، مجلة المورد ، العدد 3 ، وزارة الإعلام والثقافة العراقية ، 1986 م
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى